بسم الله الرحمن الرحيم
صدر مؤخرا كتاب حول علاقة العلم بوجود الله تعالى. والكتاب الذي يعتبر اليوم الأكثر مبيعا في فرنسا يحمل عنوان “الله والعلم والبراهين: فجر الثورة” Dieu, la science et les preuves –l’aube d’une révolution من تأليف العالمين الفرنسيين ميشال إيف بولوريMichel Yves Bolloré وأوليفيي بوناسي Olivier Bonnassier
وقد تم تأليف الكتاب بمساهمة عشرين شخصية علمية من كبار العلماء والفلاسفة الغربيين، وكتب مقدمة الكتاب البروفيسور روبيرت ويلسون أحد كبار مشاهير علم الفيزياء الأمريكيين من حملة جائزة نوبل لسنة 1978، وبالرغم من كونه ليس من المتدينين إلا أنه تحمس لفكرة الكتاب وذهب الى أنه بالرغم من أن الطرح القائل بوجود روح ذكية أو عقل أعلى يقف خلف الظواهر كمُسَبب خالق للعالم لا تبدو له مُقنعة ،إلا أنه يعترف بتماسكها ومنطقيتها، بل أكد على أن الكتاب يقدم منظورا مهما جدا عن العلوم الفيزيائية الفلكية والانعكاسات الفلسفية والدينية الناتجة عنها.
وقد أصدرت جريدة لوفيغارو Le Figaro الفرنسية ذات الانتشار الواسع تقريرا عن الكتاب فور صدوره قبل بضعة أسابيع، ومما جاء فيه: “هذا حدث هائل، أخيرا العلم الفيزيائي الفلكي يتوصل إلى البرهنة على وجود الله، هذا الكتاب يقلب كل قناعاتنا السابقة الراسخة، هذا الكتاب يروي لنا ملحمة العالم الكوني، إنه الكتاب الذي يوضح لنا كيف خلق الله الكون لأول مرة عن طريق الانفجار الأعظم (البيغ بانغ) الذي أدى إلى تشكل الكون والأفلاك والمجرات.”
الطرح الأساس للكتاب
تتمحور أطروحة الكتاب حول فكرة مفادها: «لما كانت الاكتشافات العلمية قد تراكمت علينا بشكل صارخ ومثير طيلة أربعة قرون ابتداء من كوبرنيك الى فرويد مرورا بغاليليو وداروين وأوهمتنا بأنه يمكن تفسير العالم من غير الاستناد إلى فكرة وجود إله خالق للكون، ولذلك يروى أن نابليون بونابارت (ت1821) بعدما حقق الانتصارات المذهلة باستعمار الدول واستغلال ثرواتها قال لمن حوله “وأين موقع الله في كل هذا؟ فأجيب عليه بذلك الجواب الشهير “جلالة الامبراطور هذه فرضية ماعدنا بحاجة اليها” on n’a pas besoin de cette hypothèse
إنها قمة غطرسة العلم وعجرفة من كانوا يعتبرون مسألة وجود الله تعالى من مخلفات العصور القديمة عندما كانت الكنيسة الكاثوليكية متحكمة تهيمن أفكارها في ثنايا الحياة الاجتماعية والثقافية للغربيين فأصبحت بذلك الفلسفة المادية الالحادية في الغرب منتصرة ومتجاوِزة لجميع المفاهيم والُمُسَلمات الدينية.
وتتلخص فكرة الكتاب في أن معظم الاكتشافات التي تتالت في القرون الماضية وخاصة في القرن العشرين تميل الى البرهنة على وجود الله الخالق سبحانه. ومن بين تلك النظريات نظرية أينشتاين في النسبية وعلم الميكانيك الحرارية وعلم الأحياء البيولوجية وغيرها من الاكتشافات العلمية التي تؤدي إلى نتيجة مفادها أن للكون بداية محددة تماما. أي أنه مخلوق في وقت معين ، واذا سَلمنا ببداية الكون فلابد من وجود مسبب لهذه البداية ،وبالتالي فالنتيجة البديهية تدفع الى الايمان بوجود قوة عظيمة تقف وراء نشأة الكون، أي وجود خالق عظيم يحرك ويدير ويقدر، وهذا ما من شأنه أن يُفتت من الداخل كبرى اليقينيات المادية الإلحادية المهيمنة على الذاكرة الغربية والمسيطرة على عقلها الجماعي esprit collectif.
ومن المعلوم أنه خلال القرن العشرين بما شهده من تطور علمي وثقافي هائل كان الايمان بوجود إله خالق للكون وجميع المخلوقات أمرا يضاد العلم والعقل في الغرب، لكن اليوم وخلال العقود القليلة الماضية أصبح الايمان بالله تعالى أكثر انتشارا خاصة في صفوف العلماء الغربيين .وقد استشهد المؤلفان بدراسة أمريكية أجريت عام 2009 قام بها مركز بيو للأبحاث PewResearch Center في موضوع”العلماء والمعتقدات في الولايات المتحدة الامريكية” أظهرت أن غالبية العلماء الامريكيين يؤمنون بشيء ما يقف وراء هذا الكون.
كما استشهد المؤلفان أيضا بدراسة قام بها عالم الوراثة باروخ أبا شاليفBaruch Aba Shalev عام 2003 حول معتقدات العلماء الحائزين على جائزة نوبل في مختلف التخصصات فظهر أن 90% من الفائزين بجوائز نوبل العلمية مرتبطون بإحدى الديانات مقابل 65% فقط في صفوف الحائزين على جائزة نوبل للآداب.
الإيمان في مواجهة الإلحاد
يؤكد المؤلفان أنه في سيرورة العلم لا شيء يولد من لا شيء؟ Rien ne peut sortir du neant أو بطريقة أكثر وضوحا، من بدأ تشغيل عقارب الزمن؟ حسب تعبيرهما.
ولذلك ذهب أحد كتاب الملف الصحفي الذي خصصته جريدة لوفيغارو لحدث صدور الكتاب أن المؤلفين على حق في تأكيدهما بقوة على أن تطور العلم وتجدد نظرياته باتا أقل دوغمائية Dogmatique (الدوغمائية حالة من الجمود الفكري يتعصب فيه المرء لقناعاته ويرفض تقبل آراء الغير) عندما يتعلق الأمر بالقضايا الاعتقادية. وبذلك أضحى بمقدور المؤمنين بالله تعالى الاستشهاد بالاكتشافات العلمية لإثبات وجوده سبحانه على عكس الملحدين الذين ليس بإمكانهم الاعتماد عليها لإثبات عدم وجود الله.
وعن الباعث على تأليف الكتاب يروي أحد المؤلفين وهو اوليفي بوناسيي أن فكرة إنتاج الكتاب تنطلق أساسا من اليوم الذي قام فيه بتصوير فيديو شرح فيه الأسباب التي جعلته يصبح مؤمنا في سن العشرين حيث اكتشف أسبابا منطقية للإيمان بالله بصورة تلقائية. وفي يوم من الأيام أخبره اثنان من أبنائه عن مُدرسِهما لمادة الفلسفة، وقد كان ملحدا ينتقد الدين، فسألاه كيف يمكن مساعدتهما من أجل الرد عليه ودعم حججهما، فقرر الأب حضور أحد دروس المدرس الملحد من أجل تقديم رؤيته للأشياء. وتم بذلك تسجيل مداخلته في شريط فيديو حمل عنوان “الدليل على وجود الله ودوافع مسيحية للإيمان بالله” وقد تُدوول الشريط بصورة واسعة عبر شبكة الأنترنيت. وشاهد ميشيل ايف بولوري (المؤلف الثاني) الفيديو، فعرض على بوناسيي تسجيل شريط إضافي يعزز مضمون الشريط الأول بحجج أقوى. وهكذا تم الاتفاق بين الاثنين على الاشتغال معا على كتاب حول مجمل الأسئلة والقضايا التي أهمتهما وشغلتهما منذ عقود من الزمن، فدام الانكباب على العمل مدة ثلاث سنوات وتم إصدار الكتاب.
ويذهب المؤلفان إلى أنه على المستوى التاريخي، نجد في جميع الحضارات وفي جميع القارات أن البشر كانوا دائما يؤمنون بوجود إله خالق. لقد تأملوا في الكون ونظروا إلى جماله وانسجامه وبديع ترتيبه فاعتبروا أن قوة عليا كانت بالضرورة وراء جميع هذا التكوين العجيب والإبداع الرائع للمخلوقات الكونية والبشرية وغيرها، وبذلك فنحن قريبون من معرفة الله الذي تحدثت عنه جميع الفلسفات والأديان، ولولا وجود ثوابت ومعطيات أولية للكون كما هي بالضبط، لما كان من الممكن أن تتشكل النجوم والمجرات وتستمر لملايين السنين، ولما كان للحياة بتعقيداتها أن تتطور وتدوم إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
إن الديانات السماوية تؤكد جميعها أن العالم قد بدأ في لحظة ما هي البداية ،وستكون له نهاية. وأن وجودنا ليس بسبب الصدفة، وقد تساءل المؤلفان هل يمكن لقوانين الصدفة وحدها أن تكفي لتفسير وجود الإنسان، أم أنها غير محتملة على الإطلاق؟
وإذا كان هذا مستبعدا تماما، فإنه يثير بدون شك تساؤلا مثيرا، لأنه إذا كنا في عالم مادي لا يؤمن بالمعجزات، ورأينا في العالم الحقيقي ظهورا لا جدال فيه للمعجزة المغيرة لقوانين الطبيعة فيجب عندئذ التشكيك في نظرتنا المادية للعالم، وبنفس الطريقة يمكن القول بأنه إذا وجد شعب بدوي صغير تائه بين الامبراطوريات المنظمة العظيمة وهو الوحيد الذي يؤكد أن الشمس والقمر ليسا آلهة بل مجرد كواكب منيرة أو أن العالم له بداية ونهاية أو أنه لا توجد آلهة تختبئ في الطبيعة ولكن هناك إله واحد متعال هو الذي خلق كل شيء من لا شيء، فإننا هنا مرة أخرى نجد النظرة المادية تتهاوى وتنتكس.
هذه إذن نظرة موجزة عن الكتاب وأطروحته إلا أن الذي ينبغي التنبيه إليه أن موضوع الكتاب بقدر ما يخدم مبدأ الإيمان بوجود الله ونبذ فكرة الإلحاد فإنه لا يتحدث عن الله تعالى إلا وفق النظرة المسيحية وهذا أمر طبيعي بالنسبة لمؤلفين مسيحيين، وبالرغم من تأكيد المؤلفين في بعض الحوارات التي أجريت معهما من أنهما في الكتاب لم يقفا عند تعاليم الأديان السماوية وما تقرره في مسألة الايمان بالخالق الا أنه قد تم الحديث في الكتاب عما يرتبط أساسا بالتراث اليهودي – المسيحي باعتباره تراثا مشتركا في الغرب ، لكن لا إشارة الى الإسلام ونظرته إلى وجود الله سبحانه وتعالى اعتقادا وتصديقا. ويبقى الكتاب محاولة جديدة للتأكيد على أن الصراع بين الإيمان والإلحاد لم ينقطع لحظة واحدة في حياة البشرية، وأن العلوم الدقيقة بإمكانها أن تشكل سندا للدين في إثبات كثير من القضايا الاعتقادية المرتبطة بالكون والوجود والإنسان./…
إعداد: د حسن عزوزي